موريتانيا والقضية الصحراوية: بين الجغرافيا السياسية والمسؤولية الاجتماعية والرهان الإنساني

تُعدّ موريتانيا من أكثر الدول ارتباطًا بالقضية الصحراوية، ليس فقط بحكم الجوار الجغرافي، بل أيضًا بفعل تشابك الامتدادات الاجتماعية والمجتمعية، وتداخل المصالح الأمنية والاقتصادية، ووحدة المصير الإقليمي. فمنذ انسحاب الاستعمار الإسباني من الصحراء الغربية سنة 1975، وجدت نواكشوط نفسها في قلب نزاع إقليمي معقّد، فرض عليها البحث عن توازن دقيق بين مقتضيات السيادة الوطنية، وضغوط المحيط الإقليمي، والالتزام بالقانون الدولي، والمسؤولية الإنسانية تجاه شعوب المنطقة.

 

أولًا: البعد التاريخي والاجتماعي للعلاقة الموريتانية – الصحراوية

تشكل المجال الموريتاني – الصحراوي تاريخيًا كوحدة اجتماعية وثقافية متداخلة، سابقة على الحدود السياسية الحديثة. وقد انعكس هذا التداخل في طبيعة التعاطي الموريتاني مع النزاع، حيث أدركت الدولة، بعد تجربة سبعينيات القرن الماضي وما رافقها من كلفة سياسية وأمنية، أن الانخراط المباشر في الصراع يهدد الاستقرار الداخلي والتماسك الاجتماعي.

 

لذلك، مثّل انسحاب موريتانيا من وادي الذهب سنة 1979 واعترافها بالجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (البوليساريو) تحولًا استراتيجيًا، استند إلى قراءة واقعية للتاريخ، واحترام لمبدأ تقرير المصير، وتغليب منطق السلم على منطق التوسع والصراع.

 

ثانيًا: الموقف السياسي الموريتاني بين الحياد والتوازن المجتمعي

منذ الثمانينيات، تبنّت موريتانيا سياسة حياد معلن في النزاع، مع الحفاظ على اعترافها بالجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية. ويعكس هذا الموقف إدراكًا عميقًا لحساسية البعد المجتمعي للصراع، حيث إن أي انحياز حاد قد يُنتج توترات داخلية ويؤثر على السلم الاجتماعي، في بلد يقوم توازنه على التنوع والامتدادات الاجتماعية العابرة للحدود.

 

وعليه، فإن الحياد الموريتاني لا يُفهم بوصفه انسحابًا من المسؤولية، بل كخيار عقلاني يهدف إلى حماية الاستقرار الداخلي، وتفادي الانجرار إلى نزاع مفتوح يتجاوز القدرات الوطنية.

 

ثالثًا: موريتانيا طرف معني بحل النزاع لا مجرد وسيط

خلافًا للتصوير السائد، ليست موريتانيا طرفًا محايدًا بالمعنى البارد للكلمة، بل هي دولة معنية مباشرة بحل النزاع الصحراوي. فاستمرار الصراع على حدودها الشمالية ينعكس عليها أمنيًا، واقتصاديًا، وإنسانيًا، ويجعلها عرضة لتقلبات إقليمية متزايدة.

 

ومن هذا المنطلق، فإن ما يخدم موريتانيا على المدى المتوسط والبعيد ليس بقاء النزاع معلقًا، ولا تكريس الأمر الواقع، بل قيام دولة صحراوية مستقلة شقيقة، تُشكّل عمقًا استراتيجيًا آمنًا، وشريكًا سياسيًا واقتصاديًا، وعنصر توازن إقليمي بدل أن تكون مصدر توتر دائم. فوجود دولة صحراوية ذات شرعية دولية من شأنه أن يعزز الاستقرار الحدودي، ويفتح آفاق تعاون مشروع، ويحمي البعد الاجتماعي والإنساني المشترك من التفكك والتوظيف السياسي.

 

رابعًا: الموارد الطبيعية كعامل مركزي في فهم النزاع

لم يعد النزاع الصحراوي محصورًا في أبعاده السياسية فقط، بل بات مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بما تختزنه المنطقة من موارد طبيعية استراتيجية، تشمل الفوسفات، والثروة السمكية، والمعادن، والمجال البحري الأطلسي الحيوي. وقد أدى هذا المعطى إلى تصاعد التنافس الإقليمي والدولي حول المنطقة، ما يجعل مسألة الموارد عنصرًا أساسيًا في قراءة مستقبل النزاع وتداعياته.

 

وبالنسبة لموريتانيا، فإن أي مقاربة لحل النزاع تتجاهل هذا البعد ستبقى قاصرة، لأن الاستقرار الحقيقي لا ينفصل عن إدارة مسؤولة للثروات بما يخدم التنمية الإقليمية ويحمي المجتمعات المحلية من التحول إلى مجرد هوامش في صراعات المصالح.

 

خامسًا: مجتمع حسان والوعي بالخطر المشترك

في هذا السياق، يبرز دور مجتمع حسان، على مستوى امتداده الاجتماعي والمجتمعي في موريتانيا والصحراء الغربية ودول الجوار، بوصفه معنيًا بشكل مباشر بتداعيات النزاع ومآلاته. فالمخططات المرتبطة بالصراع لا تستهدف الجغرافيا وحدها، بل تطال البنية الاجتماعية والإنسانية المشتركة، وتسعى إلى تفكيكها أو توظيفها أو تحييدها عن مصالحها الحقيقية.

 

ومن هنا، تبرز ضرورة أن يعي مجتمع حسان، بمختلف مكوناته، طبيعة المخاطر المحدقة به، وأن يدرك أن استمرار النزاع أو توظيفه خارج منطق الشرعية الدولية يشكل تهديدًا مباشرًا لاستقراره الاجتماعي ومستقبله الإنساني. ولا يعني هذا الوعي الانخراط في الصراع، بل يقتضي تحصين الذات اجتماعيًا وثقافيًا، ورفض الزج بالمجتمع في مشاريع لا تخدمه ولا تخدم الاستقرار الإقليمي.

 

سادسًا: البعد القانوني والإنساني للموقف الموريتاني

ينسجم الموقف الموريتاني، في جوهره، مع قواعد القانون الدولي التي تعتبر الصحراء الغربية إقليمًا غير متمتع بالحكم الذاتي، وتؤكد على حق تقرير المصير، كما ورد في الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية سنة 1975. غير أن البعد القانوني لا ينفصل عن البعد الإنساني، إذ إن أي تسوية لا تضع الإنسان في صلبها ستظل هشة وقابلة للانفجار.

 

ومن هذا المنطلق، فإن دعم حل عادل ودائم لا يخدم الشعب الصحراوي وحده، بل يخدم موريتانيا نفسها، بوصفها دولة تبحث عن الاستقرار والتنمية ودور إقليمي قائم على الشرعية لا على الاصطفاف.

 

خاتمة

إن موقع موريتانيا في النزاع الصحراوي يمنحها مسؤولية تاريخية تتجاوز الحسابات الظرفية. فالدولة التي اختبرت كلفة الصراع تدرك اليوم أن أمنها واستقرارها لا ينفصلان عن أمن جوارها، وأن قيام دولة صحراوية شقيقة ذات سيادة وشرعية دولية ليس تهديدًا لها، بل فرصة استراتيجية لبناء فضاء إقليمي قائم على السلم، والتعاون، واحترام الحقوق.

وبين الجغرافيا والتاريخ، يبقى الخيار الأكثر اتساقًا لموريتانيا هو دعم حل يضع البعد الاجتماعي والمجتمعي والإنساني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى