ازدواجية الخطاب الإداري في الحقل التربوي: قراءة نقدية في التعميمات الأخيرة

تطالعنا وسائل التواصل الاجتماعي منذ أمس، بتعميمات صادرة عن بعض الإدارات الجهوية للتعليم، تستند إلى المقرر رقم 01293 الصادر في 14 نوفمبر 2024، عن وزارة التربية وإصلاح نظام التعليم، والمتعلق بجدولة الامتحانات المدرسية للسنة الدراسية 2024/2025. وقد حثت هذه التعميمات الهيئات التربوية – من مفتشي المقاطعات إلى مديري مؤسسات التعليم العمومي والخصوصي – على مواصلة تقديم الدروس إلى غاية 23 يونيو، أي إلى موعد انطلاق امتحانات الفصل الثالث حسب المقرر.
في الظاهر، تبدو التعميمات حازمة، إذ تنضح بالحرص على استكمال البرامج الدراسية، واحترام رزنامة الامتحانات، والتقيد الحرفي بالنصوص القانونية. إلا أن من خبروا واقع الحقل التربوي يدركون أن مثل هذه التعميمات ليست سوى “تمرين بيروقراطي شكلي” تتكرر كل سنة، دون أن تكون لها انعكاسات فعلية على الممارسة اليومية داخل المؤسسات التعليمية.
حيث تكشف الوقائع في الميدان – كما جرى في العام الدراسي المنصرم – أن الامتحانات كثيرًا ما تُبرمج قبل موعدها الرسمي، إما بضوء أخضر غير معلن من الإدارات الجهوية، أو بتغاضٍ صامت يشبه التواطؤ الإداري. وحينها يصبح التعميم وثيقة لتبرئة الذمة أمام الجهات العليا أكثر من كونه أداة لتأطير الفعل التربوي ميدانيًا وواقعيا.
هذا التناقض بين الخطاب الرسمي والممارسة الواقعية هو ما يسمى – عندنا – في علم الاجتماع بـ “الازدواجية المؤسساتية” أو “الشرعية الشكلية مقابل الشرعية الواقعية”، حيث تُحترم النصوص ظاهريًا، ولكن تُفرغ من مضمونها عمليًا، وهو ما يؤدي إلى انهيار الثقة بين الفاعلين التربويين والإدارة، ويكرس ثقافة “التحايل المُمأسس” بدل الانضباط المؤسسي.
ولقطع الطريق أمام هذه الازدواجية، حري بالوزارة الوصية أن تأخذ بجدية الظروف المناخية القاسية التي تعاني منها ولايات الداخل، حيث تسجل درجات حرارة مرتفعة بشكل كبير من منتصف شهر مايو إلى نهاية العام الدراسي، وهو ما يؤدي إلى انتشار حالات الإغماء والرعاف بين التلاميذ، خاصة في الأقسام المغطاة ب”الزنك”.
إن الإصرار على جدول موحد وموثق زمنياً دون مراعاة الفوارق المناخية واللوجستية، يجعل من احترام المقررات الوزارية أمراً شكلياً وغير واقعي، ويفتح الباب واسعاً أمام هكذا مخالفتها بحجة “الضرورة”.
وقد تُبرر الإدارات الجهوية مخالفتها للمقرر – كما لتعميماتها – بالواقعية أو البراغماتية، نظراً لاعتبارات محلية (ظروف مناخية، ضعف الموارد، ضغط النقابات، تذمر الأهالي…). لكن تكرار هذه السلوكات يجعل منها قاعدة غير معلنة، ويتم التعامل مع النصوص كقوالب تزيينية لا أكثر، والنتيجة: تآكل السلطة الرمزية للمقرر الصادر عن الوزارة، وفقدان النصوص لهيبتها ومصداقيتها.
حينها تصبح النصوص التنظيمية مجالاً للمناورة، ويفقد الخطاب الرسمي جديته، فنصبح أمام أزمة عميقة تتجاوز مجرد البرمجة الزمنية للامتحانات، إلى سؤال أخلاقي ومؤسساتي حول معنى الالتزام في مؤسسات يُفترض أنها تربي الأجيال على الانضباط واحترام القانون.
إن التعميمات التي لا تجد طريقها إلى التطبيق الصارم، والتي تُناقضها الممارسات الفعلية، تُفرغ التعليم من معناه التربوي والقيمي، وتحوّل المؤسسات التربوية إلى مساحات من الفوضى المنظمة.
وفي الختام نحن بحاجة إلى مراجعة جذرية لهذا النمط من الإدارة الشكلية، وأن يُعاد الاعتبار للفعل التربوي كمنظومة أخلاقية ومؤسساتية متماسكة. أما أن نعيش في واقع تُصدر فيه الإدارة تعميماً بالنهار، وتُفرغ مضمونه بالليل، فذلك لا يخدم لا التلميذ، ولا المدرس، ولا الدولة نفسها.

بقلم د/  المصطفى اسغير مسعود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى