بين المهابة والمحبّة: في فلسفة التعليم ومعراجه التربوي / بقلم موسى عبدالله

في محراب التعليم، حيث تُختبر النفوس قبل العقول، ويتمايز الصبر من الجزع، أدركتُ – بعد طول مرافقة للسبورة والطباشير – أنّ الرسالة التربوية لا تُؤتى من باب الترهيب، ولا تُؤسَّس على جدران الخوف، بل تنمو وتزهر حيث يلتقي الحزم بالحكمة، وتتصافح المهابة مع المحبّة.

ليس المعلم بسجّانٍ يُرهب القلوب ويكمم الأفواه، ولا هو بمُدلّلٍ يُسقط هيبة العلم في مهاوي التراخي والتسيّب. إنما هو ميزانٌ دقيق، ترجف كفّاه إن اختلّت إحدى كفّتيه، وتضلّ خطاه إن مال عن جادّة التوسط والاعتدال.

فما أكثر من رأيناهم يُعظّمون الصمت في الصفوف، ويحسبونه انضباطًا، وما هو إلا خوفٌ مقيت كُمَّت به الأسئلة، واغتيل به الفضول، وأُطفئت جذوة الاكتشاف في عيونٍ وُلِدت لتسأل وتفهم وتعرف. وما أقلّ من رأيناهم يُحسنون تطويع المحبّة لتكون مطيّة للفهم، لا مهربًا من المسؤولية، ولا غطاءً للضعف.

وقد جسّد البشير ولد كبد (سيدي) هذا النموذج النادر من المعلمين، الذي إذا حضر حضرت الهيبة، وإذا تحدّث تحدّث العقل قبل اللسان. كان شخصيةً تربوية فريدة، جمع في قلبه بين صرامة المربي ونُبل المعلم، وبين اتزان الحكيم ودفء الأب. لم يكن يطلب احترامنا، بل يفرضه علينا بأخلاقه، ولم يكن بحاجة إلى رفع صوته، فسكينة حضوره كانت أبلغ من كل وعظٍ وخطاب. كنا نُهابه ونحبه ونحترمه في آنٍ واحد، وتلك منزلة لا يبلغها إلا من تربّى على الوفاء للعلم، وأخلص له حتى أصبح جزءًا من كيانه.

لقد علّمنا البشير أنّ التربية ليست تلقينًا، بل رعاية، وأن التعليم ليس تكرارًا، بل إبداع، وأن النجاح الحقيقي للمعلم لا يُقاس بنتائج الامتحانات، بل بما يوقظه في نفوس طلابه من قيم، وما يغرسه في عقولهم من نور. إذا دخل الفصل، دخل معه المعنى، وإذا غاب، بقي أثره حاضرًا لا يغيب. تعلمنا منه كيف يكون الوقار دون تجبّر، وكيف تكون المهابة في حضرة التواضع، وكيف يكون العلم رسالة لا مهنة.

كان البشير من أولئك القلائل الذين إن مرّوا بحياتك، تركوا فيها خطًّا لا يُمحى، وصوتًا لا يُنسى، وشعورًا دائمًا بالامتنان.

أمّا التعليم، فليس ملء أوعيةٍ خاوية، ولا نثر معلوماتٍ كمن ينفث رمادًا في الريح، بل هو فنُّ التوصيل، وصنعة التيسير، وإبداعُ الترجمة من لغة العالِم إلى وجدان المتعلّم. المعلم الذي لا يُجيد تبسيط المعقّد، لا يُجيد التعليم، ولو بلغ في العلم مبلغ ابن رشد أو الرازي. إنّ تبسيط المعلومة موهبة، وعلمٌ، ومحبّة خفيّة تسري من قلب المعلّم إلى عقل تلميذه دون أن يشعر.

وقد خبرتُ، من واقع التجربة، أن النظرة، إن صدقت، تغني عن صراخٍ كثير؛ وأن الكلمة، إذا خرجت من القلب، سكنت القلب؛ وأن المعلّم، حين يُهاب ويُحبّ في آنٍ، يُصبح معلَمًا في الذاكرة، لا مجرّد موظفٍ في سجلّ.

إنّ المعلم الحقّ لا يُقاس بما يلقّنه، بل بما يتركه من أثر، وما يزرعه من وعي، وما يوقظه من عزيمة. هو من يغرس هيبة العلم في القلوب، لا رهبة السوط في الأجساد، ومن يبني العقول حبًّا، لا قهرًا، ويقودها إلى المعرفة كما يقود النهر ماءه إلى الرويّ.

فطوبى لمن جعل بينه وبين تلاميذه مهابة لا تصدّ، ومحبّة لا تُنسى، وكلمة لا تذبل مهما امتدّت السنون.

بقلم الأستاذ موسى عبدالله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى